فصل: 4- كلام الألوسي في إبطال القصة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقد بيَّن لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يُُعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبَّه عليه مع وقوع الشك فيه- كما ذكرنا- الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزّار، والذي منه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: النجم وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. هذا توهينه من طريق النقل.
فأما من جهة المعنى: فقد قامت الحُجَّة، وأجمعت الأمة على عِصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهةٍ غيرٍ الله وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القران حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه عليه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدًا، وذلك كفر، أو سهو، وهو معصوم من ذلك كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جَرَيان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدًا ولا سهوًا، وأن يشتبه عليه ما يلقيه الملَك بما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو يتقول على الله لا عمدًا ولا سهوًا ما لم ينزل عليه، وقد قال تعالى: {وَلَوْ تقوَّل علَيْنا بعضَ الأقاويل} الآية [الحاقة:44]، وقال: {إذًا لأذقناك ضِعف الحياة وضِعفَ الممات} [الإسراء:75].
ووجه ثانٍ: وهو استحالة هذه القصة نظرًا وعُرفًا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الإلتئام متناقض الأقسام، ممتزج المدح والذم، متخاذل التأليف والنّظم، ولَمَا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمِّل، فكيف بمن رجَحََ حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟!.
ووجه ثالث: أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندة المشركين، وضعفة القلوب، والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وَهْلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفنية بعد الفنية، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شُبهة، ولم يحكِ أحد في هذه القصة شيئًا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء، حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردّة. كذلك ما روي في قصة القضية، ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت، فما رُوي عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدل على بطلانها واجتثاث أصلها. ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن هذا الحديث على مُغفَّلي المحدثين، يلبس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: {وإن كادوا لَيَفتِنونَك } الآيتين [الإسراء:73- 74]. وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا ليفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى قد عصمه من أن يفترى، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلًا، فكيف كثيرًا؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أن زاد على الركون الافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: «افتريت على الله، وقلت ما لم يقل» وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: {ولولا فضل الله عليكَ ورحمتهُ لهمّت طائفةٌ منهم أن يُضلّوك وما يضّلون إلا أنفسهم وما يضرّونك من شيء} [النساء:113]. وقد روي عن ابن عباس: كل ما في القرآن كاد فهو ما لا يكون.
قال القاضي:و لقد طالَبَتْه قريش وثقيف إذا مرّّ بآلهتهم أن يُقبل بوجهه إليها، ووعوده الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كاد أن يضل، وقد ذكرت في معنى الآية تفاسير أخر، ما ذكرناه من نصّ الله على عصمة رسوله برد سفاسفها، فلم يبق في الآية إلا أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته وتثبيته بما كاده به الكفار، وراموا من فتنته، ومرادنا في ذلك تنزيهه وعصمته صلى الله عليه وسلم وهو مفهوم الآية.
وأما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح أعاذنا الله من صحته، ولَكِن مع كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة بأجوبه منها الغث والسمين.
قلت: فذِكر هذه الأجوبة، وضعفها جلها أو كلها، إلا الأخير منها، فإنه استظهره ورجحه، وهو الذي أجاب به ابن العربي فيما تقدم من كلامه (ص 53):
إن الشيطان هو الذي ألقى ذلك في سكتة النبي صلى الله عليه وسلم بين الآيتين، محاكيًّا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم وأشاع ذلك المشركون عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظه السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذمّ الأوثان وعيبها على ما عرف منه، وقد حكى موسى بن عُقبة في مغازيه نحو هذا وقال: إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين وقلوبهم. ويكون ما روى من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنه.
ردُّ الحافظ على ابن العربي والقاضي عِياض وتعقبنا عليه:
وأما قوله الحافظ في الفتح بعد أن نقل خلاصة عن الوجوه التي تقدمت عن الإمامين المذكورَيْن في إعلال القصة وتوهينها:
وجميع ذلك لا يتمشى على قواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دلّ ذلك على أن لها أصلًا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض.
فأقول: إن هذا الجواب ليس بالقوي على إطلاقه لما بيَّنّا فيما تقدم أن تقوية الحديث بكثرة الطرق ليس قاعدة مضطردة، نعم من ذهب إلى الاحتجاج بالمرسل مطلقًا أو عند اعتضاده، ففي الجواب رد قوي عليه، كالقاضي عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة أما نحن فهو غير وارد علينا لما أوردنا من الاحتمالات التي تمنع الاحتجاج بالحديث المرسل ولو من غير وجه، ولعل هذا مذهب الحافظ ابن كثير حيث قال عند تفسيره للآية السابقة (3:229):
قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظنًا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولَكِنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.
فإن ابن كثير يعلم أن بعض هذه المراسيل التي أشار إليها أسانيدها صحيحة إلى مُرْسِلها، فلو كان بعضها يعضد بعضًا عنده وتقوى القصة بذلك، لما ضعفها بحجة أنه لم يرها مسندة من وجه صحيح وهذا بيِّن لا يخفى ثم إن من الغريب أن الحافظ ابن حجر مع ذهابه إلى تقوية القصة يرى أن فيها ما يُستنكر وأنه يجب تأويله فيقول بعد كلامه الذي نقلته آنفًا:
وإذا تقرر ذلك تعيَّن تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدًا منه، وكذا سهوًا إذا كان مغايرًا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته. ثم ذكر الحافظ مسالك العلماء في تأويل ذلك، ثم اعتمد على الوجه الأخير منها. وهو الذي نقلناه عن القاضي عياض قبيل هذا الفصل، وقلنا إنه رجَّحه، ثم قال الحافظ:
وهذا أحسن الوجوه، ويؤيِّده ما تقد في صدر الكلام عن ابن عباس من تفسير تمنَّى بـ: تلا.
فينتج من ذلك أن الحافظ رحمه الله، قد سَّلم أن الشيطان لم يتكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الجملة، وإنما ألقاها الشيطان بلسانه في ستكة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يتفق البته مع القول بصحة القصة، أو أن لها أصلًا، فإن كان يريد بذلك أن لها أصلًا في الجملة، أعني بدون هذه الزيادة، فهذا ليس هو موضع خلاف بينه وبين العلماء الذين ردّ عليهم قولهم ببطلان القصة، وإنما الخلاف في الجملة التي تزعم الروايات أن الشيطان ألقاها على لسانه صلى الله عليه وسلم فإذ قد صرح الحافظ بإنكارها وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عنها فنستطيع أن نقول لحضرة السائل:
إن الحافظ متفق مع ابن كثير- وغيره ممن سبقه ولحقه- على إنكار القصة على ما وردت في الروايات حتى التي صحَّحها الحافظ، وأما ما بقي منها مما لا يتنافى مع عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا خلاف في إمكان وقوعها، بل الظاهر أن هذا القدر هو الذي وقع بدليل ظاهر آية الحج حسبما تقدم تفسيرها في أوائل الرسالة.
نعم يرد على الحافظ هنا اعتراضان:
الأول: تليينه العبارة في إنكار تلك الزيادة، لأنه إنما أنكرها بطريق تأويلها! وحقه أن ينكرها من أصلها، لأن التأويل الذي زعمه ليست تفيده تلك الزيادة أصلًا، لأن الحافظ يقول:
إن الشيطان هو الذي ألقى بلسانه في سكتة النبي صلى الله عليه وسلم. وهي تقول: إن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فأين هذا من ذلك؟!
الثاني: تشنيعه القول على ابن العربي والقاضي عياض لإنكارهما القصة، ومع أنه يعلم أنهما أنكراها لم فيها من البواطيل التي لا تتفق مع القول بعصمة الرسول الكريم، منها هذه الزيادة التي وافقها الحافظ على استنكارها، مع فارق شكلي وهو أنهما كانا صريحين في إنكارها من أساسها، بينما الحافظ إنما أنكرها بطريق تأويلها- زعم-
ومن هنا يتبين لك ضعف ما قاله في رده على القاضي في تخريج الكشاف:
وأما طعنه فيه باختلاف الألفاظ فلا تأثير للروايات الواهية في الرواية القوية، فيعتمد من القصة على الرواية الصحيحة، أي: يُعتمد على الرواية المتابعة، وليس فيها وفيما تابعها اضطراب والإضطراب في غيرها، وأما طعنه من جهة المعنى فله أسوة كثيرة من الأحاديث الصِّحاح التي لا يؤخذ بظاهرها، بل يرد بالتأويل المعتمد إلى ما يليق بقواعد الدين.
قلت: إن هذا الرد ضعيف، لأن الرواية الصحيحة التي أشار إليها هي رواية ابن جُبير المتقدمة وفيها كما في غيرها من الروايات المتابعة الأمر المستنكر باعترافه، بل في بعض الروايات عن سعيد ما هو أنكر من ذلك وهو قوله: ثم جاءه جبريل بعد ذلك فقال: عُرض على ما جئتك به، فلما بلغ تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى قال له جبريل: لم آتك بهذا، وهذا من الشيطان!!. وقد جاء هذا في غير رواية سعيد كما تقدم، ولازمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انطلى عليه وحي الشيطان واختلط عنده بوحي الرحمن، حتى لم يميِّز بينهما، وبقي على هذه الحالة ما بقي، إلى أن جاءه جبريل في المساء! سبحانك هذا بهتان عظيم وافتراء جسيم.
فاتضح أن ليس هناك رواية معتمدة صحيحة بالمعنى العلمي الصحيح، وأن الرواية التي صحيحها الحافظ قد أنكر بعضها هو نفسه فأين الإعتماد.
وأما قوله: إن حديث الغرانيق له أسوة بكثير من الأحاديث الصحيحة. فصحيح لو صح إسناده وأمكن تأويله، وكلا الأمرين لا نسلِّم به. أما الأول فلما علمت من إرساله من جميع الوجوه حاشا ما اشتد ضعفه من الموصول، وإنها على كثرتها لا تعضده. وأما الأمر الآخر فلأن التأويل الذي ذهب إليه الحافظ رحمه الله هو في الحقيقة ليس تأويلًا، بل هو تعطيل لحقيقة الجملة المستنكرة، وهو أشبه ما يكون بتأويلات بل تعطيلات القرأمطة والرافضة للآيات القرأنية والأحاديث المصطفوية. تأييدًا لمذاهبهم الهدّامة وآرائهم الباطلة، خلافًا للحافظ رحمه الله فإنه إنما فعل ذلك دفاعًا عن مقام الحضرة النبوية والعصمة المحمدية، فهو مشكور على ذلك وماجور، وإن كان مخطئًا عندنا في ذلك التأويل مع تصحيح القصة.

.3- كلام الشوكاني:

قال الشوكاني رحمه الله تعالى:
ولم يصح شيء من هذا، ولا يثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته، بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه. ثم ذكر بعض الآيات الدالّة على البطلان ثم قال: وقال إمام الأئمة ابن خزيمة، إن هذه القصة من وضع الزنادقة.

.4- كلام الألوسي في إبطال القصة:

وعلى كل حال فإن الحافظ ابن حجر رحمه الله متفق مع الذين أنكروا القصة على تنزيهه صلى الله عليه وسلم من أن يكون للشيطان تَكلّم على لسانه عليه الصلاة والسلام، فالخلاف بينه وبينهم يكاد يكون شكليًّا أو لفظيًّا، وإنما الخلاف الحقيقي بينهم وبين بعض المتأخرين حيث ذهب إلى تصحيح القصة مع التسليم بها دون استنكار أي شيء منها، أو تأويل! بل جوّز على النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما فيها زاعمًا أن ذلك لا يتنافى مع عصمته، بل هو تأديب له! في كلام له طويل. يُغني وضوح بطلانه عن إيراده وتسويد الصفحات لرده، وقد نقله الألوسي برمّته، ثم رده عليه في كلام متين، ولولا أن هذه العجالة لم توضع لهذه الغاية، لَسُقته بتمامه فأختصر من ذلك على قوله في خاتمة بحثه:
لَكِن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد، فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلاء، عارفون بالغث والسمين من الأخبار، وقد بذلوا الوُسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودًا، وهم أكثر ممن قال بقوله، ومنهم من هو أعلم منه، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين، وفات ذلك القائل بالقََبول. ولَعمري إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة، ثم وفق الله تعالى جمعًا من خاصته لإبطاله، أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نَسَخَه سبحانه وتعالى، ولاسيما وهو مما لم يَتوقف على صحته أمر ديني، ولا معنى آية، ولا سِوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد.
وهذا آخر الكلام في تحقيق بطلان قصة الغرانيق.
وقد بقي علينا التعرض لذكر فائدة سبقت مناسبتها وهي سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءة سورة النجم وهي تضمن بيان سبب ذلك فأقول:
سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم:
رب سائل يقول: إذا ثبت بطلان إلقاء الشيطان على لسانه عليه الصلاة والسلام جملة تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فَلِمَ إذن سجد المشركين معه صلى الله عليه وسلم وليس ذلك من عادتهم؟
والجواب ما قاله المحقق الألوسي بعد سطور من كلامه الذي نقلته آنفًا:
وليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم، وإلا لما سجدوا، لأننا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: {وأنه أهلك عادًا الأولى (50) وثمود فما أبقى (51) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هو أظلم وأطغى (52) والمؤتفكة أهوى (53) فغشّاها ما غشّا (54)} إلى آخر الآيات [النجم]. فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، ولعلهم لم يسمعوا قب ذلك مثلها منه صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بين يديْ ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير، وقد ظنّوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان، كافٍ في دفع ما توهَّموه، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فقد نزلت سورة حم السجده بعد ذلك كما جاء مصرّحا به في حديث عن ابن عباس. ذكره السيوطي في أول الاتقان فلما سمع عُتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود (13)} [فصّلت]! أمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناشده الرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال: كيف وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب؟ فخفت أن ينزل بكم عذاب وقد أخرج ذلك البيهقي في الدلائل وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
ويمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم، ولايلزم منه ثبوت ذلك الخبر، لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزّى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20)} [النجم]، بناء على أن المفعول محذوف وقدّروه حسبما يشتهون، أو على أن المفعول: {ألكم الذكر وله الأنثى (21)} [النجم]. وتوهّموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثًا، والحب لشيء يعمي ويُصمّ، وليس هذا بأبعد من حملهم {تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى} على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة، مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه من الغين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
محمد ناصر الدين الألباني.
انتهى تبيض هذه الرسالة صباح يوم الإثنين الواقع في 7:3:72ه- 23:11:52 م أسأل الله تعالى أن يفيد بها السائل وسائر المسلمين ويجعلها خالصة لوجه الكريم. اهـ.